يقولون إنك لن تحتاج إلا أن تحرك سيارتك من المغرب لتصبح في أوروبا، ودقائق قليلة فقط ستفصل بين القارتين. الجزائر ستخسر والمغرب الكاسب الأكبر. وهنا قصة النفق العظيم.
قبل أكثر من ثلاثة وأربعين عاما، اتفقت كل من المغرب وإسبانيا على مد شريان يصل بين البلدين، لا بل بين القارتين ويفتح الطريق ويعبدها، وكأن لا حدود بحرية ومائية تفصل بينهما. كان ذلك العام ألف وتسعمائة وتسعة وسبعين ،في قمة استثنائية جمعت بين الملكين الراحلين العاهل المغربي آنذاك الحسن الثاني والإسباني خوان كارلوس.
في ذات العام، وعقب ذلك الاجتماع تم التوقيع على اتفاقية إنشاء نفق بحري يربط بين البلدين. مشروع كانت فكرته عظيمة في ذلك الوقت وتطلبت جهودا كبيرة. ولأجل هذه الجهود تم بداية تشكيل لجنة مشتركة لدراسة جدوى مشروع الربط القاري بين البلدين. وأسست إسبانيا الشركة الإسبانية لدراسات الاتصالات الثابتة عبر مضيق جبل طارق، بينما أسس المغرب الشركة الوطنية لدراسات مضيق جبل طارق، لتتحمل كل شركة منهما مهمة تنسيق دراسات جدوى المشروع. وعلى هذا بدأ العمل على المشروع نظريا. حتى جاء العام ألف وتسعمئة وتسعة وثمانين، وبدا أن المشروع سيخرج أكثر من قائمة الأمنيات، حين وقع المغرب وإسبانيا اتفاقية ثانية أعطت دفعة جديدة لتطوير المشروع، وبموجبها بدأت الشركتان الإسبانية والمغربية إجراء الأبحاث الجيولوجية والجيو تقنية، وهذا كان بمثابة الحجر الأساس للمشروع الذي سيكلف المليارات، وهذه المليارات الكثيرة ستكون أحد أهم العوائق أمام خروج المشروع للنور.
فلا المغرب كانت قادرة على التمويل ولا حتى إسبانيا. وكان التعويل على الاتحاد الأوروبي ودول القارة لدعم المشروع الذي سيفيد الطرفين. لكن هذه الفائدة لم تكن دول القارة العجوز تراها، بل شعرت أن المشروع سيتكلف مليارات عديدة دون أن يقدم أي إضافة، خاصة أن النقل البحري بنظرهم كان يفي بالغرض. ثم أن نفقا سيفتح الطريق بين القارتين كان بنظر الأوروبيين سببا لتدفق مزيد من المهاجرين الهاربين من القارة السمراء. لكن لم تكن الأموال وحدها العائق، فالخلافات السياسية بين كل من مدريد والرباط وقفت سدا منيعا دون إتمام الحديث عن المشروع. وكالعادة كانت قضية الصحراء على رأس الأسباب التي تدفع لنشوب أي خلاف مع المغرب، وبالتأكيد ما بين المغرب وإسبانيا قائمة طويلة من الأسباب الداعية للخلاف، فسبتة ومليلة حظيرة كان دائما على طاولة الخلاف المغربي الإسباني، وكذلك جزيرة ليلى. وهذه المحفزات للخلافات بدأت تتصاعد، وخاصة مع تولي الملك محمد السادس سلطاته الجديدة كملك للمغرب، حيث في العام ألفين واثنين أقدمت قوات إسبانية على اعتقال جنود مغاربة حط الرحال في جزيرة تورا غير المأهولة والمتنازع عليها بين المملكتين المغربية والإسبانية. وصحيح أنه تم الإفراج عنه فيما بعد، لكن الأمر ترك ندبة جديدة في العلاقة بين الطرفين.
ثم جاءت ضربة أخرى في ذات الفترة حين اشتكت الرباط للأمم المتحدة من ابتعاد مدريد عن الحياد فيما يتعلق بأزمة الصحراء،إبان رئاسة مدريد لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وبدا أن العلاقات باتت متوترة أكثر بين البلدين ،حتى جاء العام ألفين وأربعة. وشهدت العلاقة الإسبانية المغربية انفراجة مع زيارة رئيس الوزراء الإسباني للرباط، ثم تبعها في العام التالي زيارة لملك إسبانيا للمغرب لتعود العلاقة للهدوء. لكن تبين أن هذا الهدوء هو الذي يسبق العاصفة، حيث عاد رئيس الوزراء الإسباني العام ألفين وستة لزيارة مدينتي سبتة ومليلة، واللتان في عرف الرباط تعتبران مدينتان مغربيتان محتلتان. وتعكر الأجواء أكثر مع زيارة ملك إسبانيا للمدينتين في العام التالي أي بعام ألفين وسبعة. وعلى هذا سارت الأجواء بتوتر حتى بلغ ذروته أي هذا التوتر، العام ألفين وواحد وعشرين، حين كشفت المخابرات المغربية عن زيارة سرية لزعيم جبهة البوليساريو الانفصالية إبراهيم غالي لمدريد، وذلك لتلقي العلاج. أمر استفز المغرب كثيرا، ودعاها ذلك للتلويح بورقة الاتفاقات الأمنية مع إسبانيا. كما سمحت المغرب بدخول أكثر من سبعة آلاف مهاجر لمدينة سبتة المحتلة في ظل غياب تام لحرس الحدود المغربي. وبدا أن رصاصة رحمة اطلقت على العلاقة بين الطرفين. علما بأن إسبانيا هي إحدى الدول الغربية التي التي تتعاون معها المغرب أمنيا وعسكريا واقتصاديا وحتى سياسيا.
لكن قضية الصحراء بالنسبة للمغاربة كانت هي سبب التعاون مع الغرب، وهي من ستكون سبب مقاطعة أي أحد حتى لو كان الغرب أنفسهم. حتى جاءت رصاصة الرحمة على العلاقات كليا بعد قيام المغرب بإعطاء حق اللجوء لرئيس إقليم كتالونيا الانفصالي كارلوس بوتشيمون بعد صدور مذكرة اعتقال أوروبية في حقه من إسبانيا بسبب تهم تمرد. أمر قالت المغرب أنه معاملة بالمثل وردا على استقبال مدريد لزعيم جبهة البوليساريو لتدوم القطيعة شبه التامة قرابة العام الكامل، حيث جرى العام ألفين واثنين وعشرين استئناف لهذه العلاقات بعد زيارة وصفت بالتاريخية من ملك إسبانيا للمغرب ولقائه العاهل المغربي، بعد دعوة من الملك محمد السادس. ومع هذه العودة للعلاقات، عادت الأحلام القديمة للربط بين البلدين ليصبح الخلاف السياسي بين البلدين ليس سببا لتأخير تنفيذ المشروع القديم الكبير. لكن ظل التمويل مشكلة كبرى ومع التمويل صعوبات تقنية لتنفيذ المشروع ذاته. لكن لأن القدر يريد للمشروع أن يرى النور. جرت حرب الروس على الأكران وما تبعها من أزمة في الطاقة. ضربت القارة الأوروبية كما جاء الخلاف الجزائري المغربي الذي أدى لقطع الجزائر إمدادها للأوروبيين بالطاقة، لأن الناقل يمر بالمغرب كسبب آخر لدعم إطلاق المشروع، وزاد التأكيد على الأمر مع توقيع الرباط اتفاقا مع نيجيريا لتعويض الإمداد الجزائري.
وهنا بدا أن دول الاتحاد الأوروبي قد فتحت عقولها لفكرة المشروع. وبدا أن إسبانيا تحمست أكثر للفكرة، خاصة مع دخول بريطانيا على خط منافسة، حيث للإنجليز موطئ قدم في المضيق عن طريق إقليم جبل طارق نفسه. وأراد البريطانيون دعم المشروع للربط بين المغرب و إقليمهم هناك، إلا أن مدريد أرادت هي أن تكمل ما بدأته قبل ثلاثة وأربعين عاما. فأعلنت الشركة الإسبانية المكلفة بالدراسات أن مشروع الربط القاري من المتوقع أن يتم تنفيذه سنة ألفين وثلاثين. كما أن اللقاءات التشاورية بين البلدين حول المشروع مستمرة وبدعم من الاتحاد الأوروبي، وفق ما ذكرت الصحافة الإسبانية. حيث بحسب تقرير لصحيفة لارسون الإسبانية، فإن الحكومة أقرت تخصيص دعم قيمته سبعمائة وخمسين ألف يورو في قانون موازنة ألفين وثلاثة وعشرين لفائدة الشركة الإسبانية المختصة بتنفيذ المشروع حيث سيتم انفاق بعض المال على دراسة جديدة لمعرفة ما إذا كان مشروع الربط القاري ممكنًا. ستتم هذه الدراسة بمساعدة شركة ألمانية متخصصة في إجراء الدراسات المتعلقة بالأنفاق البحرية. من جهته، المغرب، فقد عين مديرا جديدا للشركة الوطنية لدراسات مضيق جبل طارق المختصة بمتابعة المشروع، وذلك في خطوة جديدة لإحياء هذا المشروع القاري.
وبالتالي فإن السنوات القادمة قد تسفر عن ولادة نفق بحري يربط القارتين العجوزة و السمراء بريا، ويفتح الطريق للعبور بسلاسة ويسر، ويجعل المغرب واحدة من البلدان المتصلة بريا مع أوروبا. وفي هذا فوائد عدة للمغرب الذي سيصبح بوابة للقارة الإفريقية منها، تأتي الصادرات الأوروبية ومنها تعبر الصادرات الإفريقية، وهذا حلم مغربي طال عليه الزمان، لكن ما جرى من مصائب مؤخرا أدت لحصول هذه الفائدة، فلطالما كانت مصائب قوم عند قوم فوائد.
تعليقات
إرسال تعليق